الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (25- 41): {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}لما أمره تعالى بالذهاب إلى فرعون عرف أنه كلف أمراً عظيماً يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلاّ ذو جأش رابط وصدر فسيح، فسأل ربه ورغب في أن يشرح صدره ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر، وأن يسهل عليه أمره للذي هو خلافة الله في أرضه وما يصحبها من مزاولة جلائل الخطوب، وقد علم ما عليه فرعون من الجبروت والتمرد والتسلط. وقال ابن جريج: معناه وسع لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك. وقال الكرماني وسع قلبي ولينه لفهم خطابك وأداء رسالتك. والقيام بما كلفتنيه من أعبائها، والعقدة استعارة لثقل كان في لسانه خلقة.وقال مجاهد: كانت من الجمرة التي أدخلها فاه وكانت آسية قد ألقى الله محبته في قلبها وسألت فرعون أن لا يذبحه، فبيناهي ترقصه يوماً أخذه فرعون في حجره فأخذ خصلة من لحيته. وقيل: لطمه. وقيل: ضربه بقضيب كان في يده فغضب فرعون فدعا بالسياف فقالت: إنما هو صبي لا يفرق بين الياقوت والجمر. فاحضرا وأراد أن يمد يده إلى الياقوت فحول جبريل عليه السلام يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فاحترق لسانه انتهى. وإحراق النار وتأثيرها في لسانه لا في يده دليل على فساد قول القائلين بالطبيعة. وعن ابن عباس كانت في لسانه رتة. وقيل: حدثت العقدة بعد المناجاة حتى لا يكلم أحداً بعدها. وقال قطرب: كانت فيه مسكة عن الكلام. وقال ابن عيسى: العقدة كالتمتمة والفأفأة. وطلب موسى من حل العقدة قدر ما يفقه قوله، قيل: وبقي بعضها لقوله وأخي هارون هو أفصح مني لسان وقوله ولا يكاد يبين. وقيل: زالت لقوله {قد أوتيت سؤلك يا موسى} وهو قول الحسن، قيل: وهو ضعيف لأنه لم يقل واحلل العقدة بل قال {عقدة} فإذا حل عقدة فقد آتاه الله سؤله. وقيل في قوله ولا يكاد يبين أن معناه لا يأتي ببيان وحجة، وإنما قال ذلك فرعون تمويهاً وقد خاطبه وقومه وكانوا يفهمون عنه فكيف يمكن نفي البيان أو مقاربته؟.وقال الزمخشري: فإن قلت: لي في قوله {اشرح لي صدري ويسر لي أمري} ما جدواه والكلام بدون مستتب؟ قلت: قد أبهم الكلام أولاً فقال {اشرح لي} {ويسر لي} فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بين ورفع الإبهام فذكرهما فكان آكد لطلب الشرح والتيسير لصدره، وأمره من أن يقول اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الشارح لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل. وقال أيضاً: وفي تنكير العقدة وإن لم يقل {واحلل عقدة} {لساني} أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً ولم يطلب الفصاحة الكاملة، و{من لساني} صفة للعقدة كأنه قيل {عقدة من} عقد {لساني} انتهى.ويظهر أن {من لساني} متعلق باحلل لأن موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي. وأجاز أبو البقاء الوجهين والوزير المعين القائم بوزر الأمور أي بثقلها فوزير الملك يتحمل عنه أوزاره ومؤنه. وقيل: من الوزر وهو الملجأ يلتجئ إليه الإنسان. وقال الشاعر:فالملك يعتصم برأيه ويلتجئ إليه في أموره. وقال الأصمعي: هو من المؤازرة وهي المعاونة والمساعدة، والقياس أزير وكذا قال الزمخشري: قال وكان القياس أزير فقلبت الهمزة إلى الواو ووجه قلبها أن فعيلاً جاء في معنى مفاعل مجيئاً صالحاً كعشير وجليس وقعيد وخليل وصديق ونديم، فلما قلب في أخيه قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز. ونظراً إلى يوازر وأخواته وإلى الموازرة انتهى ولا حاجة إلى ادعاء قلب الهمزة واواً لأن لنا اشتقاقاً واضحاً وهو الوزر، وأما قلبها في يؤازر فلأجل ضمة ما قبل الواو وهو أيضاً إبدال غير لازم، وجوزوا أن يكون {لي وزيراً} مفعولين لاجعل و{هارون} بدل أو عطف بيان، وأن يكون {وزيراً} و{هارون} مفعولية، وقدم الثاني اعتناء بأمر الوزارة و{أخي} بدل من {هارون} في هذين الوجهين. قال الزمخشري: وإن جعل عطف بيان آخر جاز وحسن انتهى. ويبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر في عطف البيان أن يكون الأول دونه في الشهرة، والأمر هنا بالعكس. وجوزوا أن يكون {وزيراً من أهلي} هما المفعولان و{لي} مثل قوله {ولم يكن له كفواً أحد} يعنون أنه به يتم المعنى. و{هارون} على ما تقدم. وجوزوا أن ينتصب {هارون} بفعل محذوف أي اضمم إليّ هارون وهذا لا حاجة إليه لأن الكلام تام بدون هذا المحذوف.وقرأ الحسن وزيد بن عليّ وابن عامر {أَشدد} بفتح الهمزة {وأُشْرِكْهُ} بضمها فعلاً مضارعاً مجزوماً على جواب الأمر وعطف عليه {وأشركه}. وقال صاحب اللوامح عن الحسن أنه قرأ أشدِّد به مضارع شدّد للتكثير، والتكرير أي كلما حزنني أمر شددت {به أزري}. وقرأ الجمهور {أشدد} {وأشركه} على معنى الدعاء في شد الأزر وتشريك هارون في النبوة، وكان الأمر في قراءة ابن عامر لا يريد به النبوة بل يريد تدبيره ومساعدته لأنه ليس لموسى أن يشرك في النبوة أحداً. وفي مصحف عبد الله أخي وأشدد.وقال الزمخشري: ويجوز فيمن قرأ على لفظ الأمر أن يجعل {أخي} مرفوعاً على الابتداء {وأشدد} خبره ويوقف على {هارون} انتهى. وهو خلاف الظاهر فلا يصار إليه لغير حاجة، وكان هارون أكبر من موسى بأربعة أعوام، وجعل موسى ما رغب فيه وطلبه من نعم سبباً تلزم منه العبادة والاجتهاد في أمر الله والتظافر على العبادة والتعاون فيها مثير للرغبة والتزيد من الخير.{كي نسبحك} ننزهك عما لا يليق بك {ونذكرك} بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص، ومحل ذلك القلب والذكر والثناء على الله بصفات الكمال ومحله اللسان، فلذلك قدم ما محله القلب على ما محله اللسان. و{كثيراً} نعت لمصدر محذوف أو منصوب على الحال، أي نسبحك التسبيح في حال كثرتهم على ما ذهب إليه سيبويه {إنك كنت بنا بصيراً} عالماً بأحوالنا. والسؤل فعل بمعنى المسؤل كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول، والمعنى أعطيت طلبتك وما سألته من شرح الصدر وتيسر الأمر وحل العقدة، وجعل أخيك وزيراً وذلك من المنة عليه.ثم ذكره تعالى تقديم منته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوي بصيرته و{مرة} معناه منة و{أخرى} تأنيث آخر بمعنى غير أي منة غير هذه المنة، وليست {أخرى} هنا بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى، وتخيل ذلك بعضهم فقال: سماها {أخرى} وهي أولى لأنها {أخرى} في الذكر والأخرى لفظ مشترك يكون تأنيث الآخر بفتح الخاء وتأنيث الآخر بمعنى آخره، فهذه يلحظ فيها معنى التأخر. والمعنى أني قد حفظتك وأنت طفل رضيع فكيف لا أحفظك وقد أهَّلتك للرسالة. وفي قوله {مرة أخرى} إجمال يفسره قوله {إذ أوحينا إلى أمّك}. قال الجمهور: هي وحي إلهام كقوله {وأوحى ربك إلى النحل} وقيل: وحي إعلام إما بإراءة ذلك في منام، وإما ببعث ملك إليها لا على جهة النبوّة كما بعث إلى مريم وهذا هو الظاهر لظاهر قوله {يأخذه عدوّ لي وعدوّ له} ولظاهر آية القصص {إنّا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين} ويبعد ما صدر به الزمخشري قوله: من يرد يده إما أن يكون على لسان نبي في وقتها كقوله {وإذ أوحيت إلى الحواريين} لأنه لم ينقل أنه كان في زمن فرعون، وكان في زمن الحواريين زكريا ويحيى. وفي قوله {ما يوحى} إبهام وإجمال كقوله {إذ يغشى السدرة ما يغشى} {فغشيهم من اليم ما غشيهم} وفيه تهويل وقد فسر هنا بقوله {أن اقذفيه في التابوت}.قال الزمخشري: و{أن} هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول. وقال ابن عطية: و{أن} في قوله {أن اقذفيه} بدل من ما يعني أنّ {أن} مصدرية فلذلك كان لها موضع من الإعراب. والوجهان سائغان والظاهر أن {التابوت} كان من خشب. وقيل: من بردى شجر مؤمن آل فرعون سدت خروقه وفرشت فيه نطعاً. وقيل: قطناً محلوجاً وسدت فمه وجصصته وقيرته وألقته في {اليم} وهو اسم للبحر العذب. وقيل: اسم للنيل خاصة والأول هو الصواب كقوله {فأغرقناهم في اليم} ولم يغرقوا في النيل.والظاهر أن الضمير في {فاقذفيه في اليم} عائد على موسى، وكذلك الضميران بعده إذ هو المحدث عنه لا {التابوت} إنما ذكر {التابوت} على سبيل الوعاء والفضلة.وقال ابن عطية: والضمير الأول في {اقذفيه} عائد على موسى وفي الثاني عائد على {التابوت} ويجوز أن يعود على موسى. وقال الزمخشري: والضمائر كلها راجعة إلى موسى ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم فإن قلت: المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلت: ما ضرك لو قلت المقذوف والملقى هو موسى في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر انتهى.ولقائل أن يقول أن الضمير إذا كان صالحاً لأن يعود على الأقرب وعلى الأبعد كان عوده على الأقرب راجحاً، وقد نص النحويون على هذا فعوده على {التابوت} في قوله {فاقذفيه في اليم فليلقه اليم} راجح، والجواب أنه إذا كان أحدهما هو المحدث عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدث عنه أرحج، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن حزم في دعواه أن الضمير في قوله {فإنه رجس} عائد على خنزير لا على لحم لكونه أقرب مذكور، فيحرم بذلك شحمه وغضروفه وعظمه وجلده بأن المحدث عنه هو لحم خنزير لا خنزير.و{فليلقه} أمر معناه الخبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «قوموا فلأصل لكم» أخرج الخبر في صيغة الأمر لنفسه مبالغة، ومن حيث خرج الفعل مخرج الأمر حسن جوابه كذلك وهو قوله {يأخذه}. وقال الزمخشري: لما كانت مشيئة الله وإرادته أن لا يخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقاءه إليه سلك في ذلك سبل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل {فليلقه اليم بالساحل} انتهى. وقال الترمذي: إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به، فكأن البحر مأمور ممتثل للأمر. وقال الفراء: {فاقذفيه في اليم} أمر وفيه معنى المجازاة أي اقذفيه يلقه اليم، والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه.وروي أن فرعون كان يشرب في موضع من النيل إذ رأى التابوت فأمر به فسيق إليه وامرأته معه ففتح فرأوه فرحمته امرأته وطلبته لتتخذه ابناً فأباح لها ذلك. وروي أن التابوت جاء في الماء إلى المشرعة التي كانت جواري امرأة فرعون يستقين منها الماء. فأخذت التابوت وجلبته إليها فأخرجته وأعلمته فرعون والعدو الذي لله ولموسى هو فرعون، وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته {قصيه} وهي لا تدري أين استقر.{وألقيت عليك محبة مني}. قيل: محبة آسية وفرعون، وكان فرعون قد أحبه حباً شديداً حتى لا يتمالك أن يصبر عنه.قال ابن عباس: أحبه الله وحببه إلى خلقه. وقال عطية: جعلت عليه مسحة من جمال لا يكاد يصبر عنه من رآه. وقال قتادة: كان في عينيه ملاحة ما رآه أحد إلاّ أحبه. وقال ابن عطية: وأقوى الأقوال أنه القبول. وقال الزمخشري: {مني} لا يخلوا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا فيها في القلوب وزرعتها فيها، فلذلك أحبك فرعون وكل من أبصرك.وقرأ الجمهور {ولِتُصْنَعَ} بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي ولتُرَبَّى ويحسن إليك. وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينيه إذا اعتنى به. قال قريباً منه قتادة. وقال النحاس: يقال صنعت الفرس إذا أحسنت إليه وهو معطوف على علة محذوف أي ليتلطف بك {ولتصنع} أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك. وقرأ الحسن وأبو نهيك بفتح التاء. قال ثعلب: معناه لتكون حركتك وتصرفك على عين مني. وقرأ شيبة وأبو جعفر في رواية بإسكان اللام والعين وضم التاء فعل أمر، وعن أبي جعفر كذلك إلا أنه كسر اللام.{إذ تمشي أختك} قيل اسمها مريم سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة، فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى، وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفتيش في المدينة لعلها تقع على خبره، فبصرت به في طوافها فقالت {هل أدلكم على من يكفله لكم وهم له ناصحون} فتعلقوا بها وقالوا: أنت تعرفين هذا الصبيّ؟ فقالت: لا، ولكن أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها، فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى فلما قربته شرب ثديها فسرّت آسية وقالت لها: كوني معي في القصر، فقالت: ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي قالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة، ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا، وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالتحف والهدايا واللباس، فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شباب، فسرّت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقرّبه، فأخذ موسى بلحية فرعون وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة.والعامل في {إذ} قال ابن عطية فعل مضمر تقديره ومننا إذ. وقال الزمخشري العامل في {إذ تمشي} {ألقيت} أو تصنع، ويجوز أن يكون بدلاً من {إذ أوحينا} فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا، فتقول: وأنا لقيته إذ ذاك.وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها انتهى. وليس كما ذكر لأن السنة تقبل الاتساع فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصصيهما بما أضيفا إليه فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقوع مشي الأخت فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة. وقال الحوفي: {إذ} متعلقة بتصنع، ولك أن تنصب {إذ} بفعل مضمر تقديره واذكر.وقرأ الجمهور {كي تَقَرُّ} بفتح التاء والقاف. وقرأت فرقة بكسر القاف، وتقدم أنهما لغتان في قوله {وقري عيناً} وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنياً للمفعول. و{قتلت نفساً} هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة، واغتم بسبب القتل خوفاً من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون، فغفر الله له باستغفاره حين قال {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي} ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغمّ ما يغمّ على القلب بسبب خوف أو فوات مقصود، والغمّ بلغة قريش القتل، وقيل: من غم التابوت. وقيل: من غم البحر، والظاهر أنه من غم القتل حين ذهبنا بك من مصر إلى مدين. والفتون مصدر جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز وبدور في حجزة وبدرة أي {فتناك} ضروباً من الفتن، والفتنة المحنة وما يشق على الإنسان. وعن ابن عباس خلصناك من محنة بعد محنة. ولد في عام كان يقتل فيه الولدان، وألقته أمه في البحر وهمّ فرعون بقتله، وقتل قبطياً وآجر نفسه عشر سنين وضل الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة انتهى. وهذه الفتون اختبره بها وخلصه حتى صلح للنبوة وسلم لها والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين. وقال وهب: ثمان وعشرون سنة منها مهر ابنته وبين مصر ومدين ثمان مراحل وفي الكلام حذف والتقدير {وفتناك فتوناً} فخرجت خائفاً إلى {أهل مدين} فلبثت سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاماً وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب، ثم ثمانية عشر عاماً بعد بنائه بامرأته بنت شعيب، وولد له فيها فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها.{ثم جئت} إلى المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك. {على قدر} أي وقت معين قدّرته لم تتقدمه ولم تتأخر عنه. وقيل على مقدار من الزمان يوحى إلى الأنبياء فيه وهو الأربعون. وقال الشاعر: {واصطنعتك لنفسي} أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإكمال والإحسان، وأخلصتك بالألطاف واخترتك لمحبتي يقال: اصطنع فلان فلاناً اتخذه صنيعة وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان. وقال الزمخشري: هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب والتكريم والتكليم مثل حاله بحال من يراه الملوك بجميع خصال فيه وخصائص أهلاً لأن يكون أقرب منزلة إليه وألطف محلاً فيصطنعه بالكرامة والأثرة ويستخلصه لنفسه انتهى. ومعنى {لنفسي} أي لأوامري وإقامة حججي وتبليغ رسالتي، فحركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لأحد غيرك.
|